المغطس (موقع التعميد) قصر اليهود
يخفي المظهر المتواضع لنهر الأردن في هذا الجزء خلفه عددا من أكبر القصص اليهودية والمسيحية على السواء. يبدو أنه قد اجتمعت في هذه النقطة الجغرافية الصغيرة، الكثير من الشخصيات والأحداث التي حرّكت عجلة التاريخ، وأصبحت رموزاً كبيرة. تعتبر زيارة المكان، أكثر من أي شيء آخر، رحلة بين الفترات، الثقافات والمعتقدات. إنها رحلة يدور جزء كبير منها في الخيال.
من يهوشوع بن نون وحتى يسوع
تبدأ رحلتنا، مثل الكثير من القصص، في التوراة. في اللحظة الرائعة التي تنتهي فيها رحلة استغرقت 40 عاما في الصحراء، وعلى بعد بضع خطوات، يتحوّل شعب الرّحالة إلى شعب من المقيمين الدائمين. بقي موسى في الخلف، ودخل بنو إسرائيل إلى أرض الميعاد، حيث حصلت في الطريق معجزة الأردن المتدفق الذي يوقف مياهه ليعبر بنو إسرائيل على أرض يابسة. بحسب التقاليد، فقد حصلت هذه اللحظة الإعجازية هنا تماما، في المكان المسمى اليوم، قصر اليهود.
نقطتنا التالية هي في سفر الملوك “ب”. حيث يصعد إلياهو هنفي (النبي الخضر) إلى السماء بمركبة من نار، من هنا تماما، ويترك النبوّة بين يدي النبي إليشع. في زمان إليشع، يتم – لأول مرة – ذكر قدرة نهر الأردن على التطهير والشفاء. نعمان، وزير الجيش لدى الملك أرم، يمرض بالجرب، ويشفى بعد أن يعمّده إليشع 7 مرات بمياه نهر الأردن.
الشخصية التالية التي تصل إلى هنا هي يوحنان بن زخاريا. والذي تعرفونه على ما يبدو باسم – يوحنّا المعمدان. ولد يوحنان لعائلة من الكهنة، كان والده يخدم في الهيكل، لكن يوحنان، وبتحوّل حادّ، اختار أن يرتدي شعر الإبل وأن يعتزل ليعيش حياة الرهبنة. بدأ بدعوة الناس للقدوم للتطهّر بالعُمّاد، وجعل هذه النقطة من نهر الأردن، مركزا لنشاطه. أتى الكثير من الناس للاعتراف بخطاياهم وللتطهر بالعماد، لكن أشرهم على الإطلاق كان، بطبيعة الحال، يسوع. يروي العهد الجديد أنه عندما تم تعميد يسوع، انشقت السماء وتجسّدت الروح القدس على شكل حمامة ونزلت على يسوع لتبشره باختياره.
تحوّلت هذه اللحظات المعدودة، التي يعمّد يوحنا يسوع خلالها، إلى لحظات حاسمة، ليس في حياة كليهما فحسب، وإنما بالنسبة لمستقبل كل المؤمنين المسيحيين، من كل الأديان. نقطة صغيرة في الزمان، تحوّلت إلى حدث ذي معنى رمزي عظيم. هذه النقطة هي التي جعلت من بيت عنيا التوراتية، ما نعرفه اليوم بالمغطس (موقع التعميد) الذي يأتي إليه المؤمنون النصارى بهدف التواصل مع اللحظة التي دخل فيها يسوع المسيح إلى مياه الأردن، وخرج منها إنسانا طاهرا، اختاره الله.
الرحلات إلى موقع المغطس
متى بدأ المؤمنون النصاري بالقدوم إلى المغطس؟ خلال الحقبة البيزنطية، بدأ المؤمنون بالحضور إلى المكان، للسير على خطى يسوع المسيح. في تلك الفترة، أقيمت حول الموقع الكثير من الأديرة والكنائس، والتي كانت تستضيف الحجّاج. استمرت رحلات الحجاج إلى المغطس، بوتيرة متغيرة، على مدار مئات السنين، إلى حين نشوب حرب الأيام الستة. يحظى المكان باسم “أرض الملاحقات”، ويتحوّل إلى نقطة احتكاك وصراع. تم هجران الأديرة والكنائس، توقف الحجاج عن القدوم، كما تم زرع الألغام في الأرض، وأصبح المغطس مهجورا. خلال سنوات الـ 80 من القرن الـ 20، توجّه البطريرك الأورثوذكسي دياودروس إلى الإدارة المدنية في منطقة يهودا والسامرة، وطلب تجديد تقليد التعميد في الموقع خلال عيد الفصح. في أعقاب الطائفة الأورثوذكسية، بدأت الطوائف الأخرى بالقدوم أيضا. بدأ المكان ينبض بالحياة مجددا.
احتفالات العُمّاد في عيد التجلي (الغطاس) والفصح
اليوم، يحضر إلى المكان حجاج على مدار السنة، لكن هنالك موعدان أساسيان يمتلئ خلالهما الموقع بالحياة من خلال حشود المؤمنين الذين يحضرون إليه باحتفالات مزركشة وروحانية – عيد الغطاس (التجلي) وعيد الفحص. يأتي المؤمنون، من أبناء مختلف الطوائف، بالغناء والرّقص، مرتدين ملابس ملونة، ويتعمّدون بالنهر ويطلقون طيور الحمام.
يرمز عيد التجلي (الغطاس) في الكنائس الشرقية إلى عمّاد يسوع المسيح، ولدى الكنائس الغربية للحظة وصول الحكماء الثلاثة إلى مريم وتبشيرهم لها بأن ابنها هو ابن الله. تقام احتفالات الغطاس بتاريخ 19.1-18، حيث تحضر الكنائس الأورثوذكسية بتاريخ 18.1، اليونانية، الروسية، الرومانية والأثيوبية. بتاريخ 19.1 تحضر الكنائس الأرمنية، السريانية والقبطية. موعد آخر من المتبع فيه حضور الكثير من المؤمنين، هو عيد الفصح، والذي يعلن قيامة يسوع المسيح.
منطقة الأديرة
إلى الجنوب من المغطس، يمر شارع يبلغ طوله نحو كيلومتر ونصف، وعلى جانبيه بنايات جميلة، ما تزال فخامتها ظاهرة حتى من وراء الغبار والإهمال. هذه هي آثار الكنائس والأديرة التي ضجّت في الماضي بالحياة، واستضافت جموع المؤمنين الذين أتوا إلى هنا. بعد حرب الأيام الستة، تم الإعلان عن المنطقة كخط حدود، وتم زرعها بالألغام، ومن طبيعة الحال تم منع الدخول إلى الاديرة. ما يزال النزول عن الشارع والدخول إلى البنايات ممنوعا خشية من الألغام، لكن – وعلى مدار السنوات الماضية – تجري في المكان أعمال لنزع الالغام، على أمل إعادة هذا لمكان أيضا للحياة.
الدير الأكبر والأكثر أهمية من بينها هو ذلك الذي منح للمكان اسمه – قصر اليهود. تم بناؤه خلال القرن الخامس، وتدمّر عام 1024 خلال هزة أرضية، ثم قام فرسان الهيكل بتريميمه خلال القرن الـ 12، وهم الذين منحوه شكل القلعة الذي يحظى به حتى اليوم. من بين البنايات الأخرى المثيرة للاهتمام، بالإمكان ذكر الكابيلا (مصلى كنسي) الفرنسيسكاني، الدير السوري-أورثوذكسي، الدير القبطي، دير أثيوبي وغيرها.
نصيحة للمتقدّمين
قبل المنعطف الذي يدخل إلى الطريق المؤدي إلى قصر اليهود بقليل، يتواجد دير حجلة. إنه دير أروثوذكسي ما زال نشطا وبالإمكان الدخول لزيارته. الدير هو لؤلؤة جميلة مع حديقة غنّاء، تماثيل، مدخل مزيّن وبصورة غريبة خزانة خشبية مليئة بالجماجم البشرية. الرّهبان في المكان بشوشون ويسعدهم أن يسمحوا لكم بالتجول في الدير، طالما تحافظون على الهدوء والملابس المحتشمة. زيارة المكان ممتعة بحدّ ذاتها، لكن إذا كانت مصاحبة لزيارة قصر اليهود، فإنها تجسّد كيف كانت تبدو رحلات الحجاج في الماضي، عندما كانت الأديرة ما تزال تنبض بالحياة وتعمل. بالإمكان – بسهولة – تخيّل الحجاج يصلون إلى ساحة الدير، ويجهّزون أنفسهم لآخر جزء من الرحلة إلى موقع المغطس.
رحلة في نفق الزّمان
قلنا في البداية إن هذه الرّحلة تجري، بمعظمها، في الخيال. المساحة التي تنقّلنا فيها صغيرة جدا، لكن المساحات الزمنية والخيالية التي اجتزناها، تبدو لا نهائية. مجرّد التفكير بأن أقدامنا تخطو في المكان الذي مشى فيه يهوشوع بن نون، إليشع، يوحنا المعمدان ويسوع المسيح، هو أمر بالغ الروعة.